كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وظلام الشهوات. وظلام الطغيان والذل. وظلام العبودية للهوى الذاتي ولأهواء العبيد أيضًا! ويتذوق من يتعرض لمثل هذا الحرج، وهو يتحرك لاستنقاذ البشرية من مستنقع الجاهلية، طعم هذا التوجيه الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم: {كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين}.
ويعلم- من طبيعة الواقع- من هم المؤمنون الذين لهم الذكرى، ومن هم غير المؤمنين الذين لهم الإنذار. ويعود هذا القرآن عنده كتابا حيا يتنزل اللحظة، في مواجهة واقع يجاهده هو بهذا القرآن جهادًا كبيرًا..
والبشرية اليوم في موقف كهذا الذي كانت فيه يوم جاءها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الكتاب، مأمورًا من ربه أن ينذر به ويذكر؛ وألا يكون في صدره حرج منه، وهو يواجه الجاهلية، ويستهدف تغييرها من الجذور والأعماق..
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاءها هذا الدين، وانتكست البشرية إلى جاهلية كاملة شاملة للأصول والفروع والبواطن والظواهر، والسطوح والأعماق!.
انتكست البشرية في تصوراتها الاعتقادية ابتداء- حتى الذين كان آباؤهم وأجدادهم من المؤمنين بهذا الدين، المسلمين لله المخلصين له الدين- فإن صورة العقيدة قد مسخت في تصورهم ومفهومهم لها في الأعماق..
لقد جاء هذا الدين ليغير وجه العالم، وليقيم عالمًا آخر، يقر فيه سلطان الله وحده، ويبطل سلطان الطواغيت. عالمًا يعبد فيه الله وحده- بمعنى العبادة الشامل- ولا يعبد معه أحد من العبيد. عالمًا يخرج الله فيه- من شاء- من عبادة العباد إلى عبادةِ الله وحده. عالمًا يولد فيه الإنسان الحر الكريم النظيف.. المتحرر من شهوته وهواه، تحرره من العبودية لغير الله.
جاء هذا الدين ليقيم قاعدة: أشهد أن لا إله إلا الله التي جاء بها كل نبي إلى قومه على مدار التاريخ البشري- كما تقرر هذه السورة وغيرها من سور القرآن الكريم- وشهادة أن لا إله إلا الله ليس لها مدلول إلا أن تكون الحاكمية العليا لله في حياة البشر، كما أن له الحاكمية العليا في نظام الكون سواء. فهو المتحكم في الكون والعباد بقضائه وقدره، وهو المتحكم في حياة العباد بمنهجه وشريعته.. وبناء على هذه القاعدة لا يعتقد المسلم أن لله شريكًا في خلق الكون وتدبيره وتصريفه؛ ولا يتقدم المسلم بالشعائر التعبدية إلاّ لله وحده. ولا يتلقى الشرائع والقوانين، والقيم والموازين، والعقائد والتصورات إلا من الله، ولا يسمح لطاغوت من العبيد أن يدعي حق الحاكمية في شيء من هذا كله مع الله.
هذه هي قاعدة هذا الدين من ناحية الاعتقاد.. فأين منها البشرية كلها اليوم؟
إن البشرية تنقسم شيعًا كلها جاهلية.
شيعة ملحدة تنكر وجود الله أصلًا وهم الملحدون.
فأمرهم ظاهر لا يحتاج إلى بيان!
وشيعة وثنية تعترف بوجود إله، ولكنها تشرك من دونه آلهة أخرى وأربابًا كثيرة. كما في الهند، وفي أواساط إفريقية، وفي أجزاء متفرقة من العالم.
وشيعة أهل كتاب من اليهود والنصارى. وهؤلاء أشركوا قديمًا بنسبة الولد إلى الله. كما أشركوا باتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله- لأنهم قبلوا منهم ادعاء حق الحاكمية وقبلوا منهم الشرائع. وإن كانوا لم يصلوا لهم ولم يسجدوا ولم يركعوا أصلًا!.. ثم هم اليوم يقصون حاكمية الله بجملتها من حياتهم ويقيمون لأنفسهم أنظمة يسمونها الرأسمالية والاشتراكية.. وما إليها. ويقيمون لأنفسهم أوضاعًا للحكم يسمونها الديمقراطية والديكتاتورية... وما إليها. ويخرجون بذلك عن قاعدة دين الله كله، إلى مثل جاهلية الإغريق والرومان وغيرهم، في اصطناع أنظمة وأوضاع للحياة من عند أنفسهم.
وشيعة تسمي نفسها مسلمة! وهي تتبع مناهج أهل الكتاب هذه- حذوك النعل بالنعل!- خارجة من دين الله إلى دين العباد. فدين الله هو منهجه وشرعه ونظامه الذي يضعه للحياة وقانونه. ودين العباد هو منهجهم للحياة وشرعهم ونظامهم الذي يضعونه للحياة وقوانينهم!
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين للبشرية؛ وانتكست البشرية بجملتها إلى الجاهلية.. شيعها جميعًا لا تتبع دين الله أصلًا.. وعاد هذا القرآن يواجه البشرية كما واجهها أول مرة، يستهدف منها نفس ما استهدفه في المرة الأولى من إدخالها في الإسلام ابتداء من ناحية العقيدة والتصور. ثم إدخالها في دين الله بعد ذلك من ناحية النظام والواقع.. وعاد حامل هذا الكتاب يواجه الحرج الذي كان يواجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يواجه البشرية الغارقة في مستنقع الجاهلية، المستنيمة للمستنقع الآسن، الضالة في تيه الجاهلية، المستسلمة لاستهواء الشيطان في التيه!.. وهو يستهدف ابتداء إنشاء عقيدة وتصور في قلوب الناس وعقولهم تقوم على قاعدة: أشهد أن لا إله إلا الله. وإنشاء واقع في الأرض آخر يعبد فيه الله وحده، ولا يعبد معه سواه. وتحقيق ميلاد للإنسان جديد. يتحرر فيه الإنسان من عبادة العبيد، ومن عبادة هواه!
إن الإسلام ليس حادثًا تاريخيًا، وقع مرة، ثم مضى التاريخ وخلفه وراءه.. إنه اليوم مدعو لأداء دوره الذي أداه مرة، في مثل الظروف والملابسات والأوضاع والأنظمة والتصورات والعقائد والقيم والموازين والتقاليد... التي واجهها أول مرة.
إن الجاهلية حالة ووضع؛ وليست فترة تاريخية زمنية.. والجاهلية اليوم ضاربة أطنابها في كل أرجاء الأرض، وفي كل شيع المعتقدات والمذاهب والأنظمة والأوضاع.. إنها تقوم ابتداء على قاعدة: حاكمية العباد للعباد، ورفض حاكمية الله المطلقة للعباد. تقوم على أساس أن يكون هوى الإنسان في أية صورة من صوره هو الإله المتحكم، ورفض أن تكون شريعة الله هي القانون المحكم.
ثم تختلف أشكالها ومظاهرها، وراياتها وشاراتها، وأسماؤها وأوصافها، وشيعها ومذاهبها.. غير أنها كلها تعود إلى هذه القاعدة المميزة المحددة لطبيعتها وحقيقتها..
وبهذا المقياس الأساسي يتضح أن وجه الأرض اليوم تغمره الجاهلية. وأن حياة البشرية اليوم تحكمها الجاهلية. وأن الإسلام اليوم متوقف عن الوجود مجرد الوجود! وأن الدعاة إليه اليوم يستهدفون ما كان يستهدفه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم تمامًا؛ ويواجهون ما كان يواجهه صلى الله عليه وسلم تمامًا، وأنهم مدعوون إلى التأسي به في قول الله سبحانه له: {كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين}..
ولتوكيد هذه الحقيقة وجلائها نستطرد إلى شيء قليل من التفصيل:
إن المجتمعات البشرية اليوم- بجملتها- مجتمعات جاهلية. وهي من ثم مجتمعات متخلفة أو رجعية! بمعنى أنها رجعت إلى الجاهلية، بعد أَن أخذ الإسلام بيدها فاستنقذها منها. والإسلام اليوم مدعو لاستنقاذها من التخلف والرجعية الجاهلية، وقيادتها في طريق التقدم والحضارة بقيمها وموازينها الربانية.
إنه حين تكون الحاكمية العليا لله وحده في مجتمع- متمثلة في سيادة شريعته الربانية- تكون هذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحررًا حقيقيًا كاملًا من العبودية للهوى البشري ومن العبودية للعبيد. وتكون هذه هي الصورة الوحيدة للإسلام أو للحضارة- كما هي في ميزان الله- لأن الحضارة التي يريدها الله للناس تقوم على قاعدة أساسية من الكرامة والتحرر لكل فرد. ولا كرامة ولا تحرر مع العبودية لعبد.. لا كرامة ولا تحرر في مجتمع بعضه أرباب يشرعون ويزاولون حق الحاكمية العليا؛ وبعضهم عبيد يخضعون ويتبعون هؤلاء الأرباب! والتشريع لا ينحصر في الأحكام القانونية. فالقيم والموازين والأخلاق والتقاليد.. كلها تشريع يخضع الأفراد لضغطه شاعرين أو غير شاعرين!.. ومجتمع هذه صفته هو مجتمع رجعي متخلف.. أو بالاصطلاح الإسلامي: مجتمع جاهلي مشرك!
وحين تكون آصرة التجمع في مجتمع هي العقيدة والتصور والفكر ومنهج الحياة. ويكون هذا كله صادرًا من الله، لا من هوى فرد، ولا من إرادة عبد. فإن هذا المجتمع يكون مجتمعًا متحضرًا متقدمًا. أَو بالاصطلاح الإسلامي: مجتمعًا ربانيًا مسلمًا.. لأن التجمع حينئذ يكون ممثلًا لأعلى ما في الإنسان من خصائص- خصائص الروح والفكر- فأما حين تكون آصرة التجمع هي الجنس واللون والقوم والأرض.. وما إلى ذلك من الروابط.. فإنه يكون مجتمعًا رجعيا متخلفا.. أو بالاصطلاح الإسلامي: مجتمعًا جاهليًا مشركًا.. ذلك أن الجنس واللون والقوم والأرض.
وما إلى ذلك من الروابط لا تمثل الحقيقة العليا في الإنسان. فالإنسان يبقى إنسانًا بعد الجنس واللون والقوم والأرض. ولكنه لا يبقى إنسانًا بعد الروح والفكر!
ثم هو يملك بإرادته الإنسانية الحرة- وهي أسمى ما أكرمه الله به- أن يغير عقيدته وتصوره وفكره ومنهج حياته من ضلال إلى هدى عن طريق الإدراك والفهم والاقتناع والاتجاه. ولكنه لا يملك أبدًا أن يغير جنسه، ولا لونه، ولا قومه. لا يملك أن يحدد سلفًا مولده في جنس ولا لون؛ كما لا يمكنه أن يحدد سلفا مولده في قوم أو أرض.. فالمجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمر يتعلق بإرادتهم الحرة هو بدون شك أرقى وأمثل وأقوم من المجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمور خارجة عن إرادتهم ولا يد لهم فيها!
وحين تكون إنسانية الإنسان هي القيمة العليا في مجتمع؛ وتكون الخصائص الإنسانية فيه موضع التكريم والرعاية، يكون هذا المجتمع متحضرًا متقدما.. أو بالاصطلاح الإسلامي: ربانيًا مسلمًا.. فأما حين تكون المادة- في أية صورة من صورها- هي القيمة العليا.. سواء في صورة النظرية كما في الماركسية، أو في صورة الإنتاج المادي كما في أمريكا وأوربا وسائر المجتمعات التي تعتبر الإنتاج المادي هو القيمة العليا، التي تهدر في سبيلها كل القيم والخصائص الإنسانية- وفي أولها القيم الأخلاقية- فإن هذا المجتمع يكون مجتمعًا رجعيًا متخلفًا.. أو بالاصطلاح الإسلامي: مجتمعًا جاهليًا مشركًا..
إن المجتمع الرباني المسلم لا يحتقر المادة؛ لا في صورة النظرية باعتبار المادة هي التي تؤلف كيان هذا الكون الذي نعيش فيه؛ ولا في صورة الإنتاج المادي والاستمتاع به. فالإنتاج المادي من مقومات خلافة الإنسان في الأرض بعهد الله وشرطه؛ والاستمتاع بالطيبات منها حلال يدعو الإسلام إليه- كما سنرى في سياق هذه السورة- ولكنه لا يعتبرها هي القيمة العليا التي تهدر في سبيلها خصائص الإنسان ومقوماته! كما تعتبرها المجتمعات الجاهلية.. الملحدة أو المشركة..
وحين تكون القيم الإنسانية والأخلاق الإنسانية- كما هي في ميزان الله- هي السائدة في مجتمع، فإن هذا المجتمع يكون متحضرًا متقدمًا.. أو بالاصطلاح الإسلامي.. ربانيًا مسلمًا.. والقيم الإنسانية والأخلاق الإنسانية ليست مسألة غامضة ولا مائعة؛ وليست كذلك قيمًا وأخلاقًا متغيرة لا تستقر على حال- كما يزعم الذين يريدون أن يشيعوا الفوضى في الموازين، فلا يبقى هنالك أصل ثابت يرجع إليه في وزن ولا تقييم.. إنها القيم والأخلاق التي تنمي في الإنسان خصائص الإنسان التي ينفرد بها دون الحيوان. وتُغلب فيه هذا الجانب الذي يميزه ويجعل منه إنسانًا.
وليست هي القيم والأخلاق التي تنمي فيه الجوانب المشتركة بينه وبين الحيوان.. وحين توضع المسألة هذا الوضع يبرز فيها خط فاصل وحاسم وثابت، لا يقبل عملية التمييع المستمرة التي يحاولها التطوريون! عندئذ لا تكون هناك أخلاق زراعية وأخرى صناعية. ولا أخلاق رأسمالية وأخرى اشتراكية. ولا أخلاق صعلوكية وأخرى برجوازية! لا تكون هناك أخلاق من صنع البيئة ومن مستوى المعيشة، على اعتبار أن هذه العوامل مستقلة في صنع القيم والأخلاق والاصطلاح عليها، وحتمية في نشأتها وتقريرها. إنما تكون هناك فقط قيم وأخلاق إنسانية يصطلح عليها المسلمون في المجتمع المتحضر. وقيم وأخلاق حيوانية- إذا صح هذا التعبير- يصطلح عليها الناس في المجتمع المتخلف.. أو بالاصطلاح الإسلامي تكون هناك قيم وأخلاق ربانية إسلامية؛ وقيم وأخلاق رجعية جاهلية!
إن المجتمعات التي تسود فيها القيم والأخلاق والنزعات الحيوانية، لا يمكن أن تكون مجتمعات متحضرة، مهما تبلغ من التقدم الصناعي والاقتصادي والعلمي! إن هذا المقياس لا يخطئ في قياس مدى التقدم في الإنسان ذاته.